- Unknown
- 10:58 م
- لاتوجد تعليقات
ارحم اليتيم
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال صلى الله عليه وسلم: «أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك» (رواه الطبراني ورواه أيضا الإمام أحمد بسند قال الهيثمي تبعاً لشيخه الزين العراقي صحيح والحديث صححة الألباني وقال صحيح، انظر حديث رقم: 80 في صحيح الجامع). شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تُوَجَّه أنظار المسلمين ومشاعرهم إلى شرائح المجتمع الضعيفة، والتي لا تقوى على القيام بدورها الطبيعي في المجتمع إلا بدعم مساند من جهات أخرى، ولعلَّ على رأس هذه الفئات شريحة الأيتام، والتي فيها من الضعف والحاجة إلى العطف والحنان والمساعدة المادية والإنسانية الشيء الكثير، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أوائل الذين لمسوا آلام اليتيم وأحزانه؛ ولذلك سجَّل في حديثه الشريف: «أَنَا وَكافِلُ اليَتِيْمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُما» (صحيح البخاري مع الفتح كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيماً [10/450 ح 6005]). ومما يلفت النظر أيضا أن الله سبحانه وتعالى ذكر لفظ اليتيم في القرآن الكريم ثلاثًا وعشرين مرة، وفي ذلك إشارة واضحة للمسلمين للانتباه والوقوف وقفة جادة أمام هذه الفئة وأمام احتياجاتها، والمشاكل التي قد تواجهها سواءً أكانت معنوية أم مادية أم اجتماعية أم غير ذلك، وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أقسام رئيسة،كلها تدور حول: دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، وفي الحالة الزواجية، والحث على الإحسان إليه ومراعاة الجانب النفسي لديه. قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36]، فالإحسان إلى اليتيم متعين كما هو للوالدين ولذي القربى، وليس هذا فحسب بل وقرنه رب العزة والجلال بالإيمان به وجعله من أعظم أعمال البر، فقال جل من قائل: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177]. ولقد تنزلت في حق اليتيم الآيات في أوائل ما تنزل من القرآن المكي كقوله تعالى: {أَرَأيتَ الّذِي يُكَذّبُ بالدّينِ . فَذَلِكَ الّذِي يَدُعُ اليتيمَ . ولا يحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسكِينِ} [ الماعون:1-3] ومفهوم الآيتين المباركتين، أنّ الذي يطرد اليتيم، ويحرم اليتيم حقه، هذا هو الذي يكذب بالدين. تعبيراً عن الترابط العميق بين الدين، وبين الاهتمام بشؤون الأيتام، وبين الإيمان وبين الاهتمام بشؤون المتعبين. فلا يمكن أن يبقى الإنسان متديناً ويطرد اليتيم. وقوله تعالى: {فَأمَّا اليَتِيم فَلاَ تَقهَر} [الضحى:9] . قال ابن كثير: "فلا تقهر اليتيم، أي لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به، وكن لليتيم كالأب الرحيم" (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4، ص523) وقوله تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:11-15]. وقال تعالى ممتدحا حال الصالحين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] قال القرطبي: "أي يطعمون الطعام على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له"، وكان الربيع بن خثيم إذا جاءه السائل قال: "أطعموه سكرًا فإن الربيع يحب السكر". وروى منصور عن الحسن أن يتيمًا كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل فقال: "دونك هذا فوالله ما غبنت" (تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، تفسير سورة الإنسان بتصرف). وعلى العكس قال تعالى موبخاً كفار قريش ومن على شاكلتهم {كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:17]. يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "وقد كان الإسلام يواجه في مكة حالة من التكالب على جمع المال بكافة الطرق، تورث القلوب كزازة وقساوة، وكان ضعف اليتامى مغريًا بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث منهم في صور شتى وبخاصة فيما يتعلق بالميراث، كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام، وهي سمة الجاهليات في كل زمان ومكان! حتى الآن، وفي هذه الآيات فوق الكشف عن واقع نفوسهم، تنديد بهذا الواقع، وردع عنه، يتمثل في تكرار كلمة (كلا) كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه، وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا . وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:19-20]" (في ظلال القرآن ــ سيد قطب ص 3906) كما أمر عز وجل بحفظ أموال الأيتام، وعدم التعرض لها بسوء، وعدَّ ذلك من كبائر الذنوب وعظائم الأمور، ورتب عليه أشد العقاب، قال تعالى: {إنّ الذِينَ يَأكُلُونَ أَمَوالَ اليَتَامى ظُلماً إنّما يَأكُلُون في بُطُونِهِم ناراً وسَيصلَونَ سَعِيراً} [النساء:10]، وقال تعالى: {ولا تَقربُوا مَالَ اليَتِيمِ إلا بِالتِي هِيَ أحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وأوفُوا بِالعَهدِ إنّ العَهدَ كَانَ مَسئُولا} [الإسراء:34] وقال تعالى: {وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ} [النساء:127] وعدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أكل مال اليتيم من السبع الموبقات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: "يا رسول الله، وما هن؟" قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (صحيح البخاري، باب الوصايا، حديث رقم 2615). وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: من الآية 6] واتفق العلماء على أن الوصي الغني لا يحل له أن يأكل من مال اليتيم شيئًا، وقالوا: "معنى قوله: فَلْيَسْتَعْفِفْ أي: بمال نفسه عن مال اليتيم، فإن كان فقيرًا أكل منه بالمعروف". واستمراراً لحرص التشريع الإسلامي على أموال اليتامى، أمر باستثمارها وتنميتها حتى لا تستنفدها النفقة عليهم والزكاة الواجبة فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا من ربى يتيماً له مال فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» (سنن أبي داود، باب الزكاة، حديث رقم 641) كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال "اتجروا في مال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة"، ومن هنا يلزم الولي على مال اليتيم استثمارها لمصلحة اليتيم على رأي كثير من أهل العلم بشرط عدم تعريضها للأخطار . قال المناوي: "قوله صلى الله عليه وسلم «وتدرك حاجتك» أي فإنك إن أحسنت إليه وفعلت ما ذكر يحصل لك لين القلب وتظفر بالبغية، وفيه حث على الإحسان إلى اليتيم ومعاملته بمزيد الرعاية والتعظيم وإكرامه لله تعالى خالصاً"، قال الطيبي: "وهو عام في كل يتيم سواء كان عنده أو لا فيكرمه وهو كافله، أما إذا كان عنده فيلزمه أن يربيه تربية أبيه ولا يقتصر على الشفقة عليه والتلطف به ويؤدبه أحسن تأديب ويعلمه أحسن تعليم ويراعي غبطته في ماله وتزويجه، وفيه أن مسح رأسه سبب مخلص من قسوة القلب المبعدة عن الرب فإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي كما ورد في عدة أخبار"، قال الزين العراقي: "لكن قيده في حديث أبي أمامة بأن لا يمسحه إلا لله، قال: ولا شك في تقييد إطلاق المسح به لأنه قد يقع مسحه لريبة كأمرد جميل يريد مؤانسته بذلك لريبة كشهوة، وإن لم يكن مسح الشعر مفضياً إلى الشهوة فربما دعى إلى ذلك. وفيه أن من ابتلي بداء من الأخلاق الذميمة يكون تداركه بما يضاده من الدواء، فالتكبر يداوى بالتواضع، والبخل بالسماحة، وقسوة القلب بالتعطف والرقة" (فيض القدير للمناوي). خالد سعد النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق