- Unknown
- 12:52 م
- وقائع
- لاتوجد تعليقات
اللغة التي يستخدمها الإنسان في تواصله مع الناس من حوله هي علامة عقله وصلاح قلبه ؛ فبقدر سموِّ لغته وطُهرِها وترفُّعها عن الفحش والبذاءة ، يكون سموُّ عقله وشرفه .
وقد سبق إلى بيان هذا المعنى عدد من العلماء الأجلاَّء منهم : يحيى بن معاذ - رحمه الله - إذ يقول : ( القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها ، ومغارفها ألسنتها ، فانتظر الرجل حتى يتكلم ؛ فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض ، وعذب وأجاج ؛ يخبرك عن طعم قلبه اغترافُ لسانه ) [1].
ووصف ابن القيم اللسان بأنَّه : ( بريد القلب وترجمانه ) [2] ، وقال في موضع آخر : ( إذا أردت أن تستدل على ما في القلوب ،فاستدل عليه بحركة اللسان ؛فإنه يطلعك على ما في القلب ؛شاء صاحبه أم أبى) [3].
والمتأمل في لغة القرآن العظيم يلمس سموَّ الألفاظ وجمال التعبير كأجمل ما يكون السموُّ والجمال ؛ فاقرأ - مثلاً - قول الله - تبارك وتعالى - : {أُحِلَّ لَكُمْلَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْتَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }( البقرة : 187 ) فقد كنى بالرفث والمباشرة عن الجماع .
ونظائر ذلك في القرآن الكريم كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : {وَإِنطَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ }( البقرة : 237 ) ، وقوله - تعالى - : {أَوْلاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ }( النساء : 43 ) ؛ فعبَّر عن الجماع بالمسّ والملامسة .
وانظر إلى جمال اللغة وأدب العبارة في قوله - جل وعلا - : {هُنَّ لِبَاسٌلَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }( البقرة : 187 ) ، وقوله : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواحَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }( البقرة : 223 ) [4].
إنَّه تهذيب للإنسان وبناء للذوق اللغوي الذي يجعل المتكلم يختار أعف الكلمات وأسماها ، ويترفع عن سفسافها وأدناها ، وهذا المعنى أحد مقتضيات قول الله عز وجل : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }( البقرة : 83 ) ، وقوله - جل وعلا - :{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( الإسراء : 53 ) ، وقوله - سبحانه - :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا }( الأحزاب : 70 ) .
ولهذا جاءت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بمعاهدة اللسان وتربيته ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أطب الكلام » [5]، وقال : « أطيبوا الكلام » [6]، وقال : « عليك بحُسْن الكلام » [7]، وقال : « الكلمة الطيبة صدقة » [8].
وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية أبلغ مثال في سموِّ اللغة ورقي التعبير ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا صَخَّاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلَها ،ولكن يعفو ويصفح ) [9].
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، وقال : « إن من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقاً » [10].
هذه البيئة التربوية الراقية هي التي نشأ فيها الرعيل الأول ، سَمَتْ بالذوق العام للمجتمع كله ؛ إذ خَلَت لغتهم من الخنى وسَلِمت أساليبهم من الإسفاف ، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يَعدُّ طيب الكلام إحدى الملذات التي لا يتمنى فراقها ، فيقول : ( لولا ثلاث : لولا أن أسير في سبيل الله ، عز وجل ، أو يغبرَّ جبيني في السجود ، أو أقاعد قوماً ينتقون طيب الكلام كما ينتقى طيب الثمر ، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله ، عز وجل ) [11].
وكلما كان الإنسان أقرب إلى لغة القرآن وتربية النبي صلى الله عليه وسلم ،كان أعفّ لساناً ، وأطهر كلاماً ؛ ولهذا اهتم السلف بأساليب التخاطب وألفاظ التعامل ؛ فنقَّوْها من الفحش وصقلوها من السوء ؛ وكان من اللطائف المستحسنة في ذلك ما نقله الحافظ السخاوي ؛ حيث قال : ( روينا عن المزني قال : سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول : فلان كذاب ، فقال لي : يا إبراهيم ! أَكِسْ ألفاظك أحسِنْها ،لا تقل : كذاب ، ولكن قل : حديثه ليس بشيء ، ونحوه ؛ إن البخاري كان – لمزيد ورعه - قلَّ أن يقول : كذاب أو وضَّاع ، أكثر ما يقول : سكتوا عنه ، فيه نظر ، تركوه ، ونحو هذا . نعم ! ربما يقول : كذَّبه فلان ، أو رماه فلان بالكذب ) [12].
وطيب الكلام يحتاج إلى تربية ومعاهدة [13]، ولهذا قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : ( إن أحق ما طهَّر الرجل لسانه )[14]، وقد يكون هذا يسيراً في الأحوال العادية ؛ لأن الإنسان قد يتكلف حُسْن المنطق والبعد عن الفحش ، لكن قد يعرِض للمرء عوارض تكشف عن معدنه الحقيقي ، وهو ما يتطلب مجاهدة وترويضاً للسان ، ومن هذه العوارض :
أولاً : الغضب :فالغضبان قد يطيش لسانه في السوء والفحش إذا لم يملك نفسه ، وقد لا يستحضر من مخزونه اللغوي إلا أسفَّ الألفاظ وأسوأها ، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : « وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب » [15] .
وانظر إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم السامية ؛ فهو عفيف اللسان في كل حال من أحواله ؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبَّاباً ولا فحَّاشاً ولا لعَّاناً ، كان يقول لأحدنا عند المعتبة : « ما له تَرِبَ جبينُه » [16].
حتى عندما آذاه رجل بقوله : والله إن هذه لقسمة ما عُدِل فيها ، وما أريد بها وجه الله ! كتم غيظه ، وقال : « رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر » [17].
ثانياً : الاختلاف :الاتفاق يُبقي الإنسان هادئاً متزناً ، لكن الاختلاف يكشف حقيقة الطبائع ؛ لأنكثيراً من الناس لا يرضى بالمخالفة ( مهما كانت يسيرة ) ؛ فيضطرب عندها لسانهويفقد اتزانه وتزول رزانته ، وربما قاده ذلك إلى الفحش أو الجَوْر أو البغي ،وأحياناً ربما دفعه إلى اختزال الاختلاف في بعض الاجتهادات العلمية أو المواقفالعملية في قضايا شخصية ، ويتحول موقفه إلى ضجيج وصخب ، ويصيِّر القضاياالبسيطة تهماً وسلَّماً للاستهداف الشخصي .
ولهذا جاء المنهج القرآني ليربي الإنسان على دفع السيئة بالحسنة ، كما قال - تعالى - : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }( فصلت : 34 ) ، وكما قال - عز وجل - : {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّارَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }( القصص : 54 )، وفي هذا الباب نقل عبد الرحمن بنأبي عائشة : قول بعض الحكماء : ( الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة فيالجوانب ) [18].
وانظر إلى أثر تلك التربية في موقف زينب بنت جحش - رضي الله عنها - لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة - رضي الله عنها - في حادثة الإفك ، فقالت : ( يا رسول الله ! أحمي سمعي وبصري ، والله ! ما علمت عليها إلا خيراً ) .
قالت عائشة تعليقاً على هذا الكلام : ( وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالورع ) [19].
ثالثاً : المزاح :إن المبالغة في الممازحة قد تدفع المرء أحياناً إلى التفحش في بعض الحديث ،رغبة في إضحاك الآخرين ، وإذا كان هذا الفعل يُعد قبيحاً مذموماً عند عامة الناس ؛فإنه أشد قبحاً ومذمة عند الدعاة والصالحين ، وقد رأيت بعض المنتسبين إلىالدعوة أنه إذا اختلى بخواصه توسع في الممازحة ، وتلفظ بألفاظ يُستحيا من سماعهافضلاً عن نطقها وروايتها ! وها هو ذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يخبرنا عنسموِّ أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : قالوا : يا رسول الله ! إنك تداعبنا !فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لا أقول إلا حقاً » [20].
فلسان الداعية في جده وهزله محفوظ بالورع من السقوط في مستنقع البذاءة أو الكذب .
إن الشريعة المطهرة لم تأت إلا لإصلاح الإنسان ، وتهذيب سلوكه ، والتسامي بفعله وقوله .
وأَوْلَى الناس بذلك الدعاة والمصلحون ؛ فَهُم الذين يحملون رسالة سامية ، ويتعاملون مع شتى طبقات المجتمع الاجتماعية والثقافية .
والكلمة الطيبة هي مفتاح للقلوب وأنجع أداة للتأثير .
وإذا كان بعض الدعاة يحرص على الارتقاء بمَلَكاته العلمية والفكرية ، ويسعى لاكتساب القدرات المهنية والمهارات الفنية ، التي تجعله أكثر نجاحاً وأرسخ إبداعاً في ميدان الدعوة ، فإنَّ ( طيب الكلام ) أساس الأمر ومفتاحه .
(1) حلية الأولياء : (10/63).(2) الفوائد : (ص 106) .(3) الجواب الكافي : (139) .(4) أشار إلى هذا المعنى الثعالبي في كتابه : (فقه اللغة) ؛ حيث عقد فصلاً (في الكناية عما يُستقبحذِكْره بما يُستحسَن لفظه) .(5) أخرجه : أبو نعيم في حلية الأولياء : (9/59) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ، رقم :(1030) .(6) أخرجه : الطبراني في الكبير ، وقوَّى إسناده الألباني في الصحيحة ، رقم : (1465) .(7) أخرجه : البخاري في الأدب المفرد ، رقم : (811) ، و ابن حبان في صحيحه ، رقم : (490) ،وصححه الألباني في الصحيحة ، رقم : (1939) ، وقواه الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان .(8) أخرجه : البخاري ، رقم : (2707 و 2891 و 2989) ، و مسلم ، رقم : (1009) .(9) أخرجه : أحمد ، رقم : (25417و 25990 و26091) ، و الترمذي ، رقم : (2016) ، وقال :حسن صحيح وصححه الأرنؤوط في تحقيقه للمسند والصخب والسخب : الضجة واختلاط الأصوات للخصام ، لسان العرب (7/294) .(10) أخرجه : البخاري ، رقم : (3759 و6029) ، ومسلم ، رقم : (2321) .(11) أخرجه : ابن المبارك في كتاب الجهاد : (ص 184) ، رقم (222) ، وحلية الأولياء (1/51) ،وروي نحوه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - كما في الحلية : (1/212) .(12) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ : (ص 68 - 69) .(13) روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد : أن عيسى ابن مريم لقي خنزيراً بالطريق فقال له :انقُذ بسلام فقيل له : تقول هذا لخنزير ؟ فقال عيسى : إني أخاف أن أعوِّد لساني النطق بالسوء الموطأ : (2/985) ، ومن طريقه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وآداب اللسان ، ضمن موسوعة ابن أبي الدنيا : (7/195) ، رقم : (308) .(14) أخرجه : ابن أبي الدنيا في كتاب (الصمت وآداب اللسان) : (7/80) ، رقم : (99) .(15) أخرجه : أحمد : (18325) ، و النسائي : (3/54/55) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/411) .(16) أخرجه : البخاري ، رقم : (6031 و 6046) .(17) أخرجه : البخاري ، رقم : (3150 و 3405 و 4336) ، ومسلم ، رقم : (1062) .(18) الصمت وآداب اللسان (7/ 197) ، رقم (321) .(19) أخرجه : البخاري رقم (4750) ، ومسلم رقم (2770) .(20) أخرجه : أحمد رقم (8481 و8753) ، والترمذي رقم (1990) ، وقوى إسناده الأرنؤوط .
وقد سبق إلى بيان هذا المعنى عدد من العلماء الأجلاَّء منهم : يحيى بن معاذ - رحمه الله - إذ يقول : ( القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها ، ومغارفها ألسنتها ، فانتظر الرجل حتى يتكلم ؛ فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض ، وعذب وأجاج ؛ يخبرك عن طعم قلبه اغترافُ لسانه ) [1].
ووصف ابن القيم اللسان بأنَّه : ( بريد القلب وترجمانه ) [2] ، وقال في موضع آخر : ( إذا أردت أن تستدل على ما في القلوب ،فاستدل عليه بحركة اللسان ؛فإنه يطلعك على ما في القلب ؛شاء صاحبه أم أبى) [3].
والمتأمل في لغة القرآن العظيم يلمس سموَّ الألفاظ وجمال التعبير كأجمل ما يكون السموُّ والجمال ؛ فاقرأ - مثلاً - قول الله - تبارك وتعالى - : {أُحِلَّ لَكُمْلَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْتَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }( البقرة : 187 ) فقد كنى بالرفث والمباشرة عن الجماع .
ونظائر ذلك في القرآن الكريم كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : {وَإِنطَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ }( البقرة : 237 ) ، وقوله - تعالى - : {أَوْلاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ }( النساء : 43 ) ؛ فعبَّر عن الجماع بالمسّ والملامسة .
وانظر إلى جمال اللغة وأدب العبارة في قوله - جل وعلا - : {هُنَّ لِبَاسٌلَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }( البقرة : 187 ) ، وقوله : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواحَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }( البقرة : 223 ) [4].
إنَّه تهذيب للإنسان وبناء للذوق اللغوي الذي يجعل المتكلم يختار أعف الكلمات وأسماها ، ويترفع عن سفسافها وأدناها ، وهذا المعنى أحد مقتضيات قول الله عز وجل : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }( البقرة : 83 ) ، وقوله - جل وعلا - :{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( الإسراء : 53 ) ، وقوله - سبحانه - :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا }( الأحزاب : 70 ) .
ولهذا جاءت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بمعاهدة اللسان وتربيته ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أطب الكلام » [5]، وقال : « أطيبوا الكلام » [6]، وقال : « عليك بحُسْن الكلام » [7]، وقال : « الكلمة الطيبة صدقة » [8].
وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية أبلغ مثال في سموِّ اللغة ورقي التعبير ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا صَخَّاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلَها ،ولكن يعفو ويصفح ) [9].
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، وقال : « إن من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقاً » [10].
هذه البيئة التربوية الراقية هي التي نشأ فيها الرعيل الأول ، سَمَتْ بالذوق العام للمجتمع كله ؛ إذ خَلَت لغتهم من الخنى وسَلِمت أساليبهم من الإسفاف ، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يَعدُّ طيب الكلام إحدى الملذات التي لا يتمنى فراقها ، فيقول : ( لولا ثلاث : لولا أن أسير في سبيل الله ، عز وجل ، أو يغبرَّ جبيني في السجود ، أو أقاعد قوماً ينتقون طيب الكلام كما ينتقى طيب الثمر ، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله ، عز وجل ) [11].
وكلما كان الإنسان أقرب إلى لغة القرآن وتربية النبي صلى الله عليه وسلم ،كان أعفّ لساناً ، وأطهر كلاماً ؛ ولهذا اهتم السلف بأساليب التخاطب وألفاظ التعامل ؛ فنقَّوْها من الفحش وصقلوها من السوء ؛ وكان من اللطائف المستحسنة في ذلك ما نقله الحافظ السخاوي ؛ حيث قال : ( روينا عن المزني قال : سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول : فلان كذاب ، فقال لي : يا إبراهيم ! أَكِسْ ألفاظك أحسِنْها ،لا تقل : كذاب ، ولكن قل : حديثه ليس بشيء ، ونحوه ؛ إن البخاري كان – لمزيد ورعه - قلَّ أن يقول : كذاب أو وضَّاع ، أكثر ما يقول : سكتوا عنه ، فيه نظر ، تركوه ، ونحو هذا . نعم ! ربما يقول : كذَّبه فلان ، أو رماه فلان بالكذب ) [12].
وطيب الكلام يحتاج إلى تربية ومعاهدة [13]، ولهذا قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : ( إن أحق ما طهَّر الرجل لسانه )[14]، وقد يكون هذا يسيراً في الأحوال العادية ؛ لأن الإنسان قد يتكلف حُسْن المنطق والبعد عن الفحش ، لكن قد يعرِض للمرء عوارض تكشف عن معدنه الحقيقي ، وهو ما يتطلب مجاهدة وترويضاً للسان ، ومن هذه العوارض :
أولاً : الغضب :فالغضبان قد يطيش لسانه في السوء والفحش إذا لم يملك نفسه ، وقد لا يستحضر من مخزونه اللغوي إلا أسفَّ الألفاظ وأسوأها ، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : « وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب » [15] .
وانظر إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم السامية ؛ فهو عفيف اللسان في كل حال من أحواله ؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبَّاباً ولا فحَّاشاً ولا لعَّاناً ، كان يقول لأحدنا عند المعتبة : « ما له تَرِبَ جبينُه » [16].
حتى عندما آذاه رجل بقوله : والله إن هذه لقسمة ما عُدِل فيها ، وما أريد بها وجه الله ! كتم غيظه ، وقال : « رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر » [17].
ثانياً : الاختلاف :الاتفاق يُبقي الإنسان هادئاً متزناً ، لكن الاختلاف يكشف حقيقة الطبائع ؛ لأنكثيراً من الناس لا يرضى بالمخالفة ( مهما كانت يسيرة ) ؛ فيضطرب عندها لسانهويفقد اتزانه وتزول رزانته ، وربما قاده ذلك إلى الفحش أو الجَوْر أو البغي ،وأحياناً ربما دفعه إلى اختزال الاختلاف في بعض الاجتهادات العلمية أو المواقفالعملية في قضايا شخصية ، ويتحول موقفه إلى ضجيج وصخب ، ويصيِّر القضاياالبسيطة تهماً وسلَّماً للاستهداف الشخصي .
ولهذا جاء المنهج القرآني ليربي الإنسان على دفع السيئة بالحسنة ، كما قال - تعالى - : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }( فصلت : 34 ) ، وكما قال - عز وجل - : {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّارَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }( القصص : 54 )، وفي هذا الباب نقل عبد الرحمن بنأبي عائشة : قول بعض الحكماء : ( الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة فيالجوانب ) [18].
وانظر إلى أثر تلك التربية في موقف زينب بنت جحش - رضي الله عنها - لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة - رضي الله عنها - في حادثة الإفك ، فقالت : ( يا رسول الله ! أحمي سمعي وبصري ، والله ! ما علمت عليها إلا خيراً ) .
قالت عائشة تعليقاً على هذا الكلام : ( وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالورع ) [19].
ثالثاً : المزاح :إن المبالغة في الممازحة قد تدفع المرء أحياناً إلى التفحش في بعض الحديث ،رغبة في إضحاك الآخرين ، وإذا كان هذا الفعل يُعد قبيحاً مذموماً عند عامة الناس ؛فإنه أشد قبحاً ومذمة عند الدعاة والصالحين ، وقد رأيت بعض المنتسبين إلىالدعوة أنه إذا اختلى بخواصه توسع في الممازحة ، وتلفظ بألفاظ يُستحيا من سماعهافضلاً عن نطقها وروايتها ! وها هو ذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يخبرنا عنسموِّ أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : قالوا : يا رسول الله ! إنك تداعبنا !فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لا أقول إلا حقاً » [20].
فلسان الداعية في جده وهزله محفوظ بالورع من السقوط في مستنقع البذاءة أو الكذب .
إن الشريعة المطهرة لم تأت إلا لإصلاح الإنسان ، وتهذيب سلوكه ، والتسامي بفعله وقوله .
وأَوْلَى الناس بذلك الدعاة والمصلحون ؛ فَهُم الذين يحملون رسالة سامية ، ويتعاملون مع شتى طبقات المجتمع الاجتماعية والثقافية .
والكلمة الطيبة هي مفتاح للقلوب وأنجع أداة للتأثير .
وإذا كان بعض الدعاة يحرص على الارتقاء بمَلَكاته العلمية والفكرية ، ويسعى لاكتساب القدرات المهنية والمهارات الفنية ، التي تجعله أكثر نجاحاً وأرسخ إبداعاً في ميدان الدعوة ، فإنَّ ( طيب الكلام ) أساس الأمر ومفتاحه .
(1) حلية الأولياء : (10/63).(2) الفوائد : (ص 106) .(3) الجواب الكافي : (139) .(4) أشار إلى هذا المعنى الثعالبي في كتابه : (فقه اللغة) ؛ حيث عقد فصلاً (في الكناية عما يُستقبحذِكْره بما يُستحسَن لفظه) .(5) أخرجه : أبو نعيم في حلية الأولياء : (9/59) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ، رقم :(1030) .(6) أخرجه : الطبراني في الكبير ، وقوَّى إسناده الألباني في الصحيحة ، رقم : (1465) .(7) أخرجه : البخاري في الأدب المفرد ، رقم : (811) ، و ابن حبان في صحيحه ، رقم : (490) ،وصححه الألباني في الصحيحة ، رقم : (1939) ، وقواه الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان .(8) أخرجه : البخاري ، رقم : (2707 و 2891 و 2989) ، و مسلم ، رقم : (1009) .(9) أخرجه : أحمد ، رقم : (25417و 25990 و26091) ، و الترمذي ، رقم : (2016) ، وقال :حسن صحيح وصححه الأرنؤوط في تحقيقه للمسند والصخب والسخب : الضجة واختلاط الأصوات للخصام ، لسان العرب (7/294) .(10) أخرجه : البخاري ، رقم : (3759 و6029) ، ومسلم ، رقم : (2321) .(11) أخرجه : ابن المبارك في كتاب الجهاد : (ص 184) ، رقم (222) ، وحلية الأولياء (1/51) ،وروي نحوه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - كما في الحلية : (1/212) .(12) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ : (ص 68 - 69) .(13) روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد : أن عيسى ابن مريم لقي خنزيراً بالطريق فقال له :انقُذ بسلام فقيل له : تقول هذا لخنزير ؟ فقال عيسى : إني أخاف أن أعوِّد لساني النطق بالسوء الموطأ : (2/985) ، ومن طريقه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وآداب اللسان ، ضمن موسوعة ابن أبي الدنيا : (7/195) ، رقم : (308) .(14) أخرجه : ابن أبي الدنيا في كتاب (الصمت وآداب اللسان) : (7/80) ، رقم : (99) .(15) أخرجه : أحمد : (18325) ، و النسائي : (3/54/55) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/411) .(16) أخرجه : البخاري ، رقم : (6031 و 6046) .(17) أخرجه : البخاري ، رقم : (3150 و 3405 و 4336) ، ومسلم ، رقم : (1062) .(18) الصمت وآداب اللسان (7/ 197) ، رقم (321) .(19) أخرجه : البخاري رقم (4750) ، ومسلم رقم (2770) .(20) أخرجه : أحمد رقم (8481 و8753) ، والترمذي رقم (1990) ، وقوى إسناده الأرنؤوط .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق