- Unknown
- 12:51 م
- وقائع
- لاتوجد تعليقات
التوبة إلى الله - عز وجل - من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة، قال - تعالى -: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].
وكان - صلى الله عليه وسلم - وهو المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، يتوب إلى الله - تعالى - كل يوم مائة مرة؛ فقد أخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)).
فاعلموا أيها الأحبة أن من أهم أسباب سوء الخاتمة تسويف التوبة، فلا يزال العبد غارقًا في الشهوات والشبهات، وهو يؤجل التوبة يومًا بعد يوم، حتى يأتيه ملك الموت فجأة، فيصرخ هذا العبد ويندم على عمره الذي مضى في معصية الله، ويقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100].
فإن من أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة، فيوسوسُ للعاصي بأن يتمهَّل في التوبة، فإن أمامه زمنًا طويلاً، ولو تاب الآن ثم رجع، لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً، فعليه أن يتوب توبة نصوحًا ويلزم المسجد ويكثر القربات، أما الآن، فإنه في شبابه وزهرة عمره، فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن، فهذا بعض مكائد إبليس في التسويف بالتوبة.
وكان بعض السلف يقول: "أُنذركم سوف"، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت، خوفًا من سوء الخاتمة ومحبة لله، والمفرط المسوِّف الذي يؤخِّر توبته؛ كمَثَل قوم في سفر دخلوا قرية، فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره، وجلس متأهبًا للرحيل، أما المُفرِّط فإنه يقول كل يوم: سأتأهب غدًا حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا، فإن المؤمن الحازم متى جاء الموت لم يندم، أما العاصي المفرط فيصرخ عند موته، ويقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100].
• وهناك مثال آخر لمَن يؤجل التوبة والإقلاع عن الذنب، فهذا مثله كمثل مَن أراد أن يقلع شجرة من فناء دار، فوجدها راسخة الجذور في الأرض ثابتة، فقال: أعود إليها في العام المقبل فأقتلعها، وما علم هذا المسكين أن الشجرة في العام المقبل سوف تزداد رسوخًا في الأرض، وسوف يزداد هو ضعفًا.
كذلك شجرة الشهوات كلما استمر العبد في المعاصي وأكثر فيها، تزداد رسوخًا في أرض قلبه، ويزداد هو بالمداومة على المعاصي ضعفًا، فلا يزال العبد يزداد محبة للشهوات، وضعفًا عن الإقلاع عنها، حتى تنزل عليه الرسل، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.
يقول ابن رجب - رحمه الله - في "لطائف المعارف" (ص 153):
"اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة، فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي.. وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت وأيس من الحياة، أفاق من سكرته لشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.
وقد حذَّر الله في كتابِه عبادَه من ذلك؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح، قال - تعالى -: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 54 - 58]، وقال - تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].
• سُمِعَ بعضُ المحتضريين عند احتضاره يلطم على وجهه، ويقول: يا حسرتى على ما فرطتُ في جنب الله.
وقال آخر عند احتضاره: "سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي".
وقال آخر عند موته: "لا تغرنَّكم الحياة الدنيا كما غرَّتني".
فهؤلاء لما نزل بهم الموتُ أغلق دونهم باب التوبة، والأمر كما قال - تعالى -: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [سبأ: 54]، قال عمر بن عبدالعزيز في تفسيرها: "إنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها".
قال ابن كثير في "تفسيره" عند قوله - تعالى -: ﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254].
"كل مفرط يقدم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئًا يسيرًا؛ ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات، كان ما كان، وأتى ما هو آتٍ، وكل بحسب تفريطه".
يقول يحيى بن معاذ - رحمه الله -: "لا تكن ممَّن يفضحه يومَ موته ميراثُه، ويومَ حشره ميزانُه"؛ (الزهد الكبير ص 255).
فغاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، وأهل الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعًا، بل منهم من يقطعها بالمعاصي، فها أنتم أيها الأحبة.. أصبحتم في أمنية كثير من الناس.
فالبدار البدار قبل الفوات، والحذار الحذار من يوم الغفلات، قبل أن يقول المذنب: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ [المؤمنون: 99]، فيقال: "فات"؛ (انظر التبصرة لابن الجوزي).
وختامًا أيها الأحبة، فهذه جملةٌ من أسباب سوء الخاتمة، وإني لأحذِّر نفسي وإياكم من أن نقع في واحدة منها.
وإياك والتسويف فالعمر قصير، والباقي منه هو يسير، وكل نفس من أنفاسك بمنزلة خاتمتك؛ لأنه يمكن أن تُخْطف فيه روحك، ولنعلم جميعًا أن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويُحشر على ما مات عليه، فمَن استقام في هذه الحياة الدنيا، خُتِم له بخاتمة السعادة، ومَن زلَّت قدمه وحارب ربه، فسيكون ما سمعنا.
قال أبو محمد عبدالحق الإشبيلي: في كتابه "العاقبة":
"اعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - لا تكون لمَن استقام ظاهره وصلح باطنه، وما سُمِع بهذا ولا عُلِم به - والحمد لله - وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان[1]عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، أو يكون ممَّن كان مستقيمًا، ثم يتغيَّر عن حاله، ويخرج عن سننه، ويخرج عن طريق الهداية ويسلك طريق الغواية، فيكون ذلك سببًا لسوء خاتمته، وشؤم عاقبته".
وقال ابن رجب: "مَن استقام ظاهره مع باطنه، خُتِم له بالإيمان".
أحبتي في الله، هذه المحاضرة ليست دعوة لليأس والقنوط من رحمة الله - تعالى - وإنما هي دعوة للتوبة والرجوع إلى الله - عز وجل - ثم الاستقامة على ذلك إلى أن تلقى الله - عز وجل - وهذه معنى قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
وقال ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره": "لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه، أنَّ مَن عاش على شيء مات عليه، وأنَّ مَن مات على شيء بُعِث عليه".
فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تختم لنا بما يرضيك عنا، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، وارزقنا الجنة والزيادة، اللهم احشرنا في زمرة الصالحين، وارزقنا صحبة سيد المرسلين، اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم في جنة النعيم، آمين.. آمين.. آمين يا رب العالمين. وبعد:
فهذا آخر ما تيسَّر جمعه في هذه الرسالة، نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبَّلها منَّا بقبول حسن، كما أسأله - سبحانه وتعالى - أن ينفع بها مؤلِّفها وقارئها، ومَن أعان على إخراجها ونشرها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صوابًا فادعُ لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي.
إن تَجِدْ عيبًا فسُدَّ الخللا
جلَّ مَن لا عيبَ فيه وعلا
|
فاللهم اجعل عملي كله صالحًا، ولوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه نصيبًا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا والله - تعالى - أعلى وأعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق