- Unknown
- 11:19 ص
- لاتوجد تعليقات
دعوها وشأنها..اِنها تحب الحياة فحسب
كان هناك فتاة تحب الحياة كأغنية حالمة، بينما يطلب منها أفراد عائلتها أن تهبط اِلى الواقع بكل مشقاته من تعب وكدر ومعاناة واِكتئاب. لقد أرادوا منها أن تفهم أن هذه الحياة ما هي اِلا مسيرة مضنية من الكدح الشاق والعيش ردحاً من الزمن تحت رحمة الواقع. كانت الفتاة الصغيرة تريد أن ترسم الحياة والواقع وفق أهوائها ومزاجها.
وذات مرة عادت اِليها نفس الانتقادات لتخرج عن صمتها وقالت كل ما يعتمر في صدرها، وقفزت من مكانها ووقفت بثقة وبدأت تتكلم بثبات وكأنها تقرأ كتاب.
"أنا لست متوحدة أو مجنونة أو مخبولة ولكني أحب الوحدة الرومنسية والعزلة المتوهجة بالاِبداع، أحب أن أجلس في حجرتي كثيراً حيث تأخذني الذكريات القديمة مع الأهل والأصدقاء، وأحب أن أرتشف الشاي الأخضر عندما أجلس في شرفة المنزل مساءً وأتأمل الناس اللذين يمشون على الرصيف. وعندما أرغب بالقراءة أجلس على مكتبي لأقرأ أشعار يوهان فولفغانغ جوته وفلسفة فريدريك نيتشه باللغة الألمانية ليمتلىء عقلي بالصور الصوفية والكلمات المجازية التي تنضح بالمعرفة والحكمة. وأستمع للموسيقى الحزينة One Man's Grief والتي تشع بالأمل. واِني أعالج سمعي وأذني وروحي من الكلمات النابية التي أسمعها هنا وهناك عن طريق موسيقى Czardas والتي تمتزج ألحانها بصوت البيانو وبكاء آلة الكمان فأشفى من الغضب والحنق وأعود لطبيعتي الحالمة فتعانق روحي السماء وتصافح في طريقها الأرواح الطيبة، وكل ذلك يحصل خلال برهة من الزمن لا يستوعبها العقل.
وقبل خروجي من المنزل أرتدي ثياب أنيقة وبسيطة وأغمر نفسي بأجود العطور الفرنسية وأذهب للجامعة ذات البنيان المعماري الذي يقبع بفن الهندسة وأستمتع بما تقوله دكتورة الاقتصاد حين تشرح باللغة الاِنجليزية المعادلات والأرقام والمقالات التي كتبها خبراء اقتصاديون وهم عباقرة في علم الاِدارة والمال. وأقول لنفسي كم هي جميلة وسعيدة هذه المعلمة الرائعة ذات الخمسين عاماً ونيف والتي لديها درجة بروفيسور في قسم الاِقتصاد والرياضيات المالية مما يعكس شغفها بالعلم وقاعات التدريس. ولا أنسى كلمتها الشهيرة حين تنصحنا وهي متجهمة عندما نكون مقصرين "اجتهدوا وارفعوا مستواكم هذا. اِن بقيتم هكذا لن تحصلوا على ثقافة عالية ولن تنافسوا الطلاب الأجانب" وعندما أرى حماسها وهي تشرح أقول لنفسي هنيئاً لها بالعلم وهنئياً لنا بها، لأنها وبلا شك ستأتيها منحة –عما قريب- من جامعة تقع في كوكب المريخ حيث يعيش هناك معلمين ومعلمات عباقرة لا يريدون اِلا طلاب عباقرة مثلهم، لذا علي أن أغتنم فرصة حضور محاضراتها الشيقة والمفيدة وأن لا أفوتها.
أخرج من الجامعة وأجلس في المقهى وأحتسي القهوة وأتناول حلوى الكريب الفرنسية أو حلوى القرفة السويدية وأقرأ الجريدة باللغة الهولندية وأختلس النظرات للعصافير البيضاء السمينة وهي تغني بجانب أعمدة الضوء السوداء وأرى النساء والرجال يرتدون معاطفهم ويحملون في أيديهم تذاكر لحضور مباريات كرة القدم في الملعب الكبير والذي يقف بجواره الرجل العجوز البدين الذي يبيع شطائر النقانق مع المشروبات الباردة على زبائنه الأسخياء والجائعين ويحسب ما جمعه من نقود في آخر اليوم. الكل يعمل ما يحب والكل يدرس ما يحب والكل يفعل ما يحب، هذه هي الحياة يا قومي الأعزاء لكنكم جعلتموها معقدة مثل المعادلات المملة!".
كان أحد أشقاءها يريد أن يوقفها ليقول ما أراد قوله ولكنها أوقفته باِشارة من يدها حينما رفعتها عالياً في الهواء بشكل يعكس ثقتها بنفسها وفي الوقت نفسه أظهرت الاِحترام لجميع الجالسين فابتسم شقيقها وصمت بانتظار سماع ما ستقوله.
أكملت بعدما تنحنحت لتعيد القوة اِلى صوتها الرقيق "أجلس عند البحر وأراقب أمواجه المتلاطمة بصخور الشاطىء وتأخذني الدهشة والذهول حين أرى السماء الزرقاء الصافية تعانق البحر الشاحب الخجول وكأنهما زوجان أو صديقان أو حبيبان يتعانقا دون أن يمل أحدهم الآخر. بين البحر والسماء علاقة صداقة حميمة وندية وخصومة لذيذة عابقة بالفرحة المتناقضة. وبين السماء والبحر تطير الطائرات الورقية بحرية ويجري وراءها الأطفال المبتسمون. يلعب ويرتع الصبية والفتيات الصغار وحين يجوع أي طفل منهم يذهب لأمه بحثاً عن الطعام والغداء.
وحين أعود للمنزل أحتضن والدتي وأقبل وجه أبي الغارق وجهه بخيوط الزمن وأرى في تلك الخطوط حكايات تستحق الاِصغاء على وقع الأغاني الطربية في جلسة عشاء عائلية غامرة بالود والمرح والرحمة.
وفي أيام الـ weekend أذهب للسينما مع أصدقائي وصديقاتي. وبعد مغادرة الفيلم الأجنبي نذهب للمطعم ونأكل جبنة الفوندو السويسرية الساخنة مع الخبز الفرنسي ونحتسي معها الشاي الأسود المغلي".
وقال جميع الأخوة بصوت واحد سائلين "وحين تذهبين للنوم، بماذا تشعرين؟!"
قالت الفتاة بعد أن نزلت دمعة حنونة من عينها الناعسة العسلية على خدها الأبيض الناعم المحمر "أطفىء أضواء الغرفة وأشعل ضوء الأباجورة الليموني الخافت وأتمتع بمنظر النجوم الزرقاء المضيئة المعلقة على الجدار فأشعر أني في الفضاء وحين أضطجع على سريري أحس بأنني أرقد في عربة تتوجه بي نحو السماء وأرى الملائكة في أحلامي الوردية وهي تزفني عروساً اِلى صديق الطفولة الذي رحل وهو صغير -وما عاد يلعب معي بالطين- لتتم مراسم خطبتنا في العالم الأبيض السعيد القابع في مكان قصي لا يدخله اِلا أصحاب القلوب النقية"
هنا بكى الجميع وطلبوا منها أن تتوقف وعرفوا أن أختهم ما زالت طفلة لم تكبر بعد وأنها هشة ورقيقة وليست نداً للحياة المخيفة. وقال أحدهم بلهجة لطيفة "ينبغي عليكي أن تكوني قوية حينما تصطدمين بالواقع فشخصيتك الحالمة قد تسبب لكي خيبة الأمل والاِنكسار، وهذا أمر بالغ الخطورة. اِن هذه الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق